اخر الاخبار

الخميس، 2 سبتمبر 2021

فن الإصغاء ـــ تأليف: إريك فروم ـ ترجمة: محمود منقذ الهاشمي - القسم الأول

       العوامل المؤدية إلى تغيّر المريض في المعالجة التحليلية: 
                                الفصل الأول : العوامل الشفائية حسبما ذكر زيغموند فرويد ونقدي لها
لدى التحدث عن العوامل التي تُفضي إلى الشفاء التحليلي، أعتقد أن العمل الأهم في الموضوع هو بحث فرويد، التحليل، محدَّد الأمد وغير محدَّد الأمد (1937c)، الذي هو بحث من البحوث المتألقة، والذي إذا كان في وسع المرء أن يقول ذلك على هذا النحو، هو أحد أشجع أبحاثه، على الرغم من أنه لم يفتقر إلى الشجاعة في أي عمل من أعماله الأخرى. وقد كُتب قبل وقت غير طويل من وفاته، وهو إلى حد ما الكلمة الإيجازية الأخيرة عن جدوى الشفاء التحليلي. وأولاً سأُجمل باختصار أهم أفكار هذا البحث ثم سأعمد في القسم الأكبر من هذه المحاضرة، إلى التعليق عليها وتقديم ما هو بالإمكان من مقترحات ذات صلة بها.‏
قبل كل شيء، يستأثر في البحث بالاهتمام أن فرويد يقدم نظرية التحليل النفسي التي لم تتغيّر في الحقيقة منذ الأيام الباكرة. فمفهومه للعُصاب هو أن العُصاب نزاع بين الغريزة والأنا. فإما أن الأنا فيه الكفاية من القوة، وإما أن الغرائز شديدة القوة، ولكن الأنا هو حاجز، على أية حال؛ وهو غير قادر على مقاومة القوى الغريزية، ولهذا السبب يحدث العُصاب. إن هذه النظرية على وفاق مع نظريته الباكرة ونتيجة لها، وهو يقدّمها كذلك في ماهيتها من دون أن يحاول تزويقها أو تعديلها. وما ينجم عن ذلك أن الشفاء التحليلي يؤدي أساساً إلى تقوية الأنا الذي كان في الطفولة شديد الضعف، فيمكّنه آنئذ من التغلّب على القوى الغريزية، في الفترة التي يكون في الأنا كفاية من القوة.‏
ثانياً، ما الشفاء وفقاً لفرويد؟ إنه يجعله ناصع الوضوح، ويمكن أن أقتبس هنا من بحثه، التحليل، محدَّد الأمد وغير محدَّد الأمد، (1937; S. E., vol. 23. 23, p. 219) Analysis, Terminable and Interminable. إذا تحدثنا عن الشفاء، "أولاً لن يعود المريض يعاني من أعراضه [السابقة] وسوف يتغلّب على قلقه وكوابحه." ويوجد شرط بالغ الأهمية. ففرويد لا يفترض أن البرء من الأعراض، أي زوال الأعراض بمفرده، يشكل الشفاء. فلا يمكن للمحلل أن يكون مقتنعاً بأن المريض قد شُفي إلا إذا كان مقتنعاً أن ما يكفي من الأعراض المادية اللاشعورية قد انتقل إلى السطح، مما يفسّر لماذا زالت الأعراض [من الطبيعي على مستوى النظرية]، ومن غير المحتمل أن تتكرر أعراضه المرَضية السابقة. وبالفعل، يتحدث فرويد هنا عن تدجين الغرائز (cf. loc. cit., p. 220). فالعملية التحليلية هي تدجين للغرائز، أو هي، كما يقول كذلك، جعل الغرائز "يسهل أن تصل إليها كل تأثيرات الاتجاهات الأخرى للأنا (loc cit.,p. 225). أولاً، يؤتى بالغرائز إلى الإدراك لأنه كيف يسعك أن تدجّنها خلافاً لذلك؟- ثم يغدو الأنا في العملية التحليلية أقوى وينال القوة التي أخفق في أن يكتسبها في طفولته.‏
ثالثاً، ما هي العوالم التي ذكر فرويد في هذا البحث أنها تحدد نتائج التحليل ـ فإما الشفاء وإما الخيبة؟ إنه يذكر ثلاثة عوامل: أولاً، "تأثير الصدمات النفسية"؛ ثانياً، "القوة التكوينية للغرائز"؛ ثالثاً، "تغييرات الأنا" في عملية الدفاع في وجه اندفاع الغرائز (cf. loc. cit., p. 225).‏
وعند فرويد أن التكهّن بالسير السلبي للمرض، يكمن في القوة التكوينية للغرائز، بالإضافة إلى تعديل أو بالاتحاد معه، وهو تعديل سلبي للأنا في النزاع الدفاعي. ومن المعروف جيداً أن العامل التكويني لقوة الغريزة قد كان بالنسبة إلى فرويد أهم عامل في تكهّنه بشفاء المريض من مرضه. وإنه لأمر غريب أن يكون فرويد في أعماله، من أولى كتاباته حتى هذا البحث الذي هو آخر كتاباته، قد أكّد أهمية العوامل التكوينية، وأنه لم يقم الفرويديون وغير الفرويديين بغير البَرْقَلَة(*) على أبعد تقدير تجاه هذه الفكرة، التي كانت شديدة الأهمية عند فرويد.‏
وهكذا، يقول فرويد إن أحد العوامل السلبية بالنسبة إلى الشفاء هو القوة التكوينية للغرائز، ويضيف، حتى لو كان الأنا قوياً بصورة طبيعة. ويقول، ثانياً، حتى لو أمكن أن يكون تعديل الأنا تكوينياً. وبكلمات أخرى، لقد كان لديه عامل تكويني في جانبين: في جانب الغرائز وفي جانب الأنا. ولديه عامل آخر غير محبّذ أو سلبي، وهو ذلك الجانب من المقاومة الذي لـه جذوره في غريزة الموت. وتلكم هي إضافة، ولا ريب، تأتي من نظريته الأحدث. ولكن من الطبيعي في سنة 1937، أن يرى فرويد أنها عامل سلبي للشفاء كذلك.‏
فما هو الشرط الإيجابي للشفاء وفقاً لفرويد؟ إنه لأمر لا يعيه الكثيرون عندما يفكرون في نظرية فرويد، وهو، بحسب بحث فرويد هذا، كلما قويت الصدمة النفسية كانت فرص الشفاء أفضل. وسأبحث في مسألة لماذا كان ذلك كذلك ولماذا أعتقد أنها كانت كذلك في ذهن فرويد، برغم أنه لا يتكلم عن ذلك كثيراً.‏
إن شخص المحلل النفسي هو العامل الآخر الذي يكون من المأمول فيه أن يكون في صالح الشفاء. ويقدّم فرويد هنا، في البحث الأخير هذا، ملاحظة تستأثر بالاهتمام كثيراً حول الوضع التحليلي الذي من المفيد ذكره: يقول، إن المحلل "يجب أن يكون لديه نوع من التفوق حتى يستطيع في أوضاع تحليلية معينة أن يتصرف بوصفه أنموذجاً لمريضه، وفي أوضاع أخرى بوصفه معلماً. وأخيراً، علينا ألا ننسى أن العلاقة التحليلية قائمة على محبة الحقيقة ـ أي على التعرّف بالواقع ـ وأنها تمنع أي نوع من الغش والخداع" (S. Freud, 1937; S. E., vol. 23, p. 248). وأعتقد أنه قول شديد الأهمية قدّمه فرويد هنا بمنتهى الوضوح.‏
وكلمة أخيرة عن مفهوم فرويد هنا، الذي لا يضعه بصراحة بل هو ضمني ويتخلّل كل أعماله إذا كنت أفهمها على الوجه الصحيح. لقد كانت لفرويد رؤية ميكانيكية إلى حد ما لعملية الشفاء. وكانت الرؤية في الأصل، هي أنه إذا كشف المرء أو اكتشف العواطف المكبوتة فإن العاطفة إذ تصير شعورية تخرج من النسق، إذا صح أن يقال ذلك؛ وكان هذا يسمى التفريج، وكان الأنموذج أنموذجاً ميكانيكياً للغاية، كخروج القيح من بقعة ملتهبة وما إلى ذلك، وكان يُفترض أن حدوث ذلك أمر طبيعي تماماً، وآلي تماماً.‏
ورأى فرويد وكثيرون من المحللين الآخرين أن ذلك ليس صحيحاً، لأنه لو كان صحيحاً، لكان من شأن الناس الذين يتصرفون عن منافاة للعقل أن يكونوا أكثر الناس صحة لأنهم يُخرجون السخافات من نظامهم ـ وهم ليسوا كذلك. ولهذا تخلّى فرويد والمحللون الآخرون عن النظرية. ولكن هذه النظرية قد استُبدلت بها الفكرة الأقل صراحة وهي أن للمريض تبصّراً، أو إذا أردتم استخدام مصطلح آخر، أنه يصبح مدركاً واقعه اللاشعوري، فتزول أعراضه المرَضية ببساطة. وفعلاً ليس على المرء أن يبذل جهداً خاصاً، باستثناء المجيء، والتداعي، ومكابدة أحوال القلق التي يشتمل هذا الأمر عليها بالضرورة. ولكنها ليست مسألة الجهد الخاص من المريض، الإرادة الخاصة ـ فالمرء سوف يتعافى شريطة أن ينجح في التغلّب على المقاومة، وستصل المادة المكبوتة إلى البروز. وليست هذه النظرية في درجة ميكانيكية نظرية فرويد الأصلية في التفريج البتة. ولكنها لا تزال ميكانيكية إلى حد ما، كما أراها. فهي تحتوي على مفهوم ضمني أن العملية عملية سهلة، بمعنى أنه، إذا كشف المرء المادة، تعافى المريض في هذه العملية.‏
وأود الآن أن أضع بعض التعليقات على آراء فرويد هذه في الأسباب التي تُحدِث الشفاء، بعض الإضافات إليها، وبعض التنقيحات لها. وأريد أولاً أن أقول إنه، إذا سأل المرء ما هو الشفاء التحليلي، فأعتقد أن ما يوحّد المحللين، أو ما هو مشترك بينهم، هو مفهوم فرويد الأساسي القائل بأن التحليل النفسي يمكن تعريفه بأنه منهج يسعى إلى كشف الواقع اللاشعوري لشخص من الأشخاص وهو يفترض أن الشخص في عملية الكشف هذه تكون لـه فرصةُ أن يتعافى. وما دام في ذهننا هذا الهدف، فإن القدر الكبير من الصراع بين المدارس لا بد أن يكون منقوص الأهمية إلى حد ما. وإذا كان في ذهن المرء ذلك حقاً، عرف كم هو عمل غدّار وبالغ الصعوبة أن يعثر على الواقع اللاشعوري في الشخص، ولن تثيره الطرق المختلفة التي يسعى بها إلى القيام بذلك، بل يسأل المرء أية طريقة، أية منهجية، أية مقاربة، هي الأكثر إيصالاً إلى هذا الهدف الذي هو هدف كل ما يمكن أن يُطلَق عليه التحليل النفسي. وأود أن أقول إن أي منهج علاجي ليس لـه هذا الهدف قد يكون عظيم القيمة من الناحية العلاجية؛ ولكنه لا علاقة لـه بالتحليل النفسي، وفي هذه الناحية بالضبط سأقدم تقسيماً واضح الحدود.‏
وبالنسبة إلى مفهوم فرويد أن العمل التحليلي هو تمتين الحاجز في وجه اندفاع الغرائز، لا أريد أن أحاجّ ضد هذه المسألة، لأنني أعتقد أنه يمكن أن تقال أشياء كثيرة لصالحها. وأعتقد، بوجه خاص، أننا إذا عالجنا مسألة الذُّهان في مقابل العُصاب، فإننا نعالج هشاشة الأنا والأمر الغريب أن شخصاً ينهار وشخصاً آخر لا ينهار تحت تأثير بعض الدوافع. ولهذا فأنا لا أُنكر صحة المفهوم العام أن قوة الأنا لها بعض العلاقة بالعملية. ولكن بالرغم من ذلك، ومع هذا التحفّظ، يبدو لي أن أهم مشكلة في العُصاب والشفاء ليس بالضبط أنه هنا تأتي الأهواء غير العقلية وهناك الأنا الذي يقي الشخص من أن يُمسي مريضاً.‏
إذ يوجد تناقض آخر، وهو المعركة بين نوعين من الهوى، أعني الأهواء القديمة النكوصية غير العقلية ضد الأهواء الأخرى داخل الشخصية. وسأكون أوضحَ قليلاً لأجعل نفسي مفهوماً. إنني أعني بالأهواء القديمة: التدميرية الشديدة للغاية، والتعلّق فائق الحد بالأم، والنرجسية المتطرفة.‏
وأعني بالتعلق فائق الحد التعلّق الذي أسميه التعلّق الرمزي، أو الذي من شأن المرء أن يطلق عليه بالمصطلحات الفرويدية التعلّق ما قبل التناسلي بالأم. وأعني ذلك التعلّق العميق الذي يكون فيه الهدف فعلاً هو العودة إلى رحم الأم أو حتى العودة إلى الموت. وأود أن أذكّركم أن فرويد نفسه قد أعلن في آخر كتاباته أنه قد استهان بأهمية التعلّق ما قبل التناسلي. فلأنه قد وضع في كل أعماله الكثير جداً من التأكيد على الارتباط التناسلي، استهان بمشكلة الفتاة. وبينما من المعقول بالنسبة إلى الصبي أن يبدأ كل ذلك بالتعلق التناسلي الجنسي بالأم، فلا معنى لـه في الحقيقة مع الفتاة. وقد رأى فرويد أن ثمة قدراً كبيراً من التعلّق ما قبل التناسلي بالأم ـ أي غير الجنسي بالمعنى الأضيق للكلمة ـ يوجد في البنات والبنين على السواء ولم يحفل به بصورة كافية في أعماله بوجه عام. ولكن هذه الملاحظة صارت مفقودة إلى حد ما في الكتابات التحليلية، وعندما يتحدث المحللون عن المرحلة الأوديبية والصراع الأوديبي وعن الأمر كله، فإنهم في العادة يفكرون على أساس التعلّق أو الارتباط التناسلي، لا على أساس التعلّق ما قبل التناسلي بالأم.‏
ولا أعني بالتدميرية التدميرية الدفاعية أساساً، التي هي في خدمة الحياة، أو حتى التي هي في الدفاع عن الحياة بصورة ثانوية، كالحسد، وإنما التدميرية التي هدفها الرغبة في التدمير. وقد دعوت تلك التدميرية "النكروفيليا" (2)necrophilia‏
[إن التعلّق القوي بالأم، والتدميرية النكروفيلية، والنرجسية المتطرفة هي أهواء خبيثة] ـ خبيثة لأنها مرتبطة بالمرض الشديد للغاية ومسبِّبة له. وضد هذه العواطف الخبيثة توجد في الإنسان كذلك العواطف المضادة لها: عاطفة الحب، وعاطفة الاهتمام بالعالم ـ وكل ما يُدعى الإيروس Eros، الاهتمام لا بالناس وحسب، بل كذلك الاهتمام بالطبيعة، والاهتمام بالواقع، واللذة في التفكير، وكل اهتمام فني.‏
إنه لمما يسير على الدُّرجة اليوم أن نتحدث عما يسميه الفرويديون وظائف الأنا ـ وهو ما أعتقد أنه تراجع يستدعي الشفقة واكتشاف لأمريكا بعد أن اكتُشفت بزمن طويل، لأنه لم يشك أحد من خارج الأُرثوذكسية الفرويدية أبداً بوجود وظائف كثيرة للذهن ليست نتيجة الغرائز بالمعنى الجنسي. وأعتقد أن المرء بهذا التأكيد للأنا قد قام ببعض التراجع عما كان الجانب الأثمن في تفكير فرويد، وأعني به تأكيد الأهواء. وفي حين أن قوة الأنا هي من بعض الوجوه مفهوم ذو معنى، فإن الأنا هو في أساسه منفّذ الأهواء؛ وهو منفّذ إما الأهواء الخبيثة وإما الأهواء غير الخبيثة. ولكن المهم في الإنسان، وما يحدد عمله، وما يصنع شخصيته، إنما هو أي نوع من الأهواء يحركه. ولتقديم مثال نقول: إن كل ذلك يعتمد على مسألة هل للشخص اهتمام عاطفي بالموت والدمار وكل ما هو غير حي، وهو ما دعوته "النكروفيليا" necrophilia، أم اهتمام عاطفي بكل ما هو حي، وهو الذي دعوتُه "البيوفيليا" biophilia. وكلتاهما عاطفة، وكلتاهما ليست نتاجاً منطقياً، وكلتاهما ليست الأنا. إنها جزء من الشخصية الكلية. وهاتان ليستا من وظائف الأنا. هاتان نوعان للعاطفة.‏
وهذا هو التنقيح الذي أود أن أقترحه فيما يتصل بنظرية فرويد: هو أن المشكلة الأساسية ليست محاربة الأنا للعواطف، بل هي محاربة نمط من العاطفة لنمط آخر من العاطفة.‏
* البرقلة (بفتح الباء وسكون الراء وفتح القاف): الكلام الذي لا يتبعه عمل. (المترجم)‏
(2) CF. E. Fromm, The Heart of Man: Its Genius for Good and Evil, 1964a,‏
الذي يعالج تماماً هذه المشكلة المتعلقة بمسألة ما هي مصادر الحالات المرضية الشديدة للغاية وما هي في الحقيقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق